تمهيد :-
إن نشوء واقعة أو رابطة معينة في الواقع ، ومحاولة معرفة أثرها أو قانونيتها لابد أولاً من المفترض وجود قاعدة قانونية معينة يمكن إسناد هذه الواقعة إليها .... ومن ثم فإن تحديد معنى هذه القاعدة القانونية ونطاقها تحديداً دقيقاً يمكن أن يعطينا الأثار القانونية لهذه الواقعة في ضوء القاعدة القانونية المستمدة منها .
وعليه فإذا كان أول ما يثار بالذهن أن التحقيق في أمر ما لا يكون إلا عندما يكون هناك نزاع حول هذا الأمر ، لذلك فإن تحديد القيمة القانونية لأعمال لجان التحقيق على العراق يكمن في معرفة أمرين ، الأول : حصر وتحديد معنى النزاع ، ثانياً : تحديد القاعدة القانونية المسند إليها أعمال لجان التحقيق ..... ومن ثم نخلص في النهاية إلى تحديد الأثار القانونية لأعمال لجان التحقيق ، أو قيمة أعمالها قانوناً وهو ما سأعرض له .
النـزاع : -
يقصد بالنزاع الدولي : خـلاف بين دولتين على مسألة قانونية أو حادث معين أو بسبب تعارض وجهات نظرهما القانونية أو مصالحهما (1) .
وبذلك يتضح وحسبما يظهر من اجتهاد القضاء الدولي أن أي نزاع لا بد له من موضوع ، أما نوع هذا النزاع - هل هو نزاع قانوني أو سياسي فهو يستند إلى عناصر هذا النزاع وخصائصه ، وفي كل الأحوال يميز الفقه القانوني الدولي بين نوعين من النزاع (2) .
الأول : نزاع ذو طابع قانوني :
وهو النزاع الذي يكون فيه الطرفان على خلاف حول تطبيق وضع أو تفسير حكم ، وهذا النوع من النزاع يمكن حله بالاستناد إلى القواعد القانونية ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر قضية المناطق الحرة (3) ، وقضية لوتس (4) ، وقضية ألاباما (5) .
الثاني : نزاع ذو طابع سياسي :
وهذا النزاع لا يخضع للقضاء وينشأ عن طلب أحد الطرفين تعديل وضع ، وهذه المنازعات كما يرى بحق البارون ديكان عبارة عن ادعاءات متناقضة صادرة من طرفي النزاع ولا يمكن أن توصف بأنها منازعات قانونية ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر النزاع الألماني البولوني عام 1939م حول دنتزيغ ، والنزاع الأماني التشيكوسلوفاكي عام 1938م حول قضية سودات .
وبناء على ما تقدم فإن نوعي النزاع السابقين يختلفان وفقاً لطبيعة كل منهما ، فالنزاع القانوني يحل بالطرق القضائية أو التحكيمية بالاستناد إلى قانون وضعي ، والنزاع السياسي يتم حله بالطرق الدبلوماسية أو السياسية والتي يراعى فيها التوفيق بين المصالح.
وعليه يكون النزاع بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية بشأن مسألة نزع أسلحة الدمار العراقية نزاع سياسي يحل بالطرق الدبلوماسية أو السياسية ، وبالفعل تم إرسال محققين لأرض العراق بغية حل هذا النزاع بالطرق الدبلوماسية .
بعد تحديدنا لمفهوم النزاع الدولي وأنواعه نتكلم عن لجان التحقيق الدولية :-
نشأتها وتطورها :-
لقد نشأت لجان التحقيق الدولية بناء على المبادرة الروسية في مؤتمر لاهاي الأول وتم وضعها حيز التنفيذ في نصوص اتفاقية في مؤتمر لاهاي الثاني في المواد (9-36) (6) وتحركت طريقة التحقيق لأول مرة في قضية دوكرنبك أو صيادي هول الناشئة عن مهاجمة الأسطول الروسي بقيادة الأميرال رودجستننسكي خطأً قوارب الصيد الإنجليزية في عام 1904 م التي ظنها الأسطول الروسي مدمرات يابانية حيث تألف في هذا الشأن لجنة تحقيق دولية، وحدد بيان سان – بترسبورغ مهمتها واختصاصاتها وكانت برئاسة الأميرال فورنية وبعد شهر من اجتماعها ووضعت تقريراً على أثره دفعت روسيا تعويضاً لبريطانيا ، وعلى أثر ذلك نظمت طريقة التحقيق عام 1907 م وفقاً لمؤتمر لاهاي وتميز بالتالي :-
1- أنها ترمي إلى تسوية القضايا الفعلية .
2- أنها اختيارية .
3- تتألف لجان التحقيق بموجب اتفاقية خاصة .
4- ليس لتقرير اللجنة أي صفة إلزامية (7).
معاهدات بريان :
إن اتفاقية لاهـاي لم تقدم سوى خطة عامة لتأليف لجان التحقيق وتحريكها وتركت الحرية للأطراف المتعاقدة في اللجوء إلى طريقة التحقيق .
وإزاء ذلك قد شاءت بعض الدول إلى الذهاب إلى أبعد من ذلك بتعهدها الصريح باللجوء إلى لجنة تحقيق في ظروف تحددها اتفاقيات تعقد لهاذ الخصوص ، وقد تبنت الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة في وزير خارجيتها بريان هذه الفكرة ، فعقد بريان أكثر من ثلاثين اتفاقية من هذا النوع أطلق عليها معاهدات بريان نسبة إليه (
.
التحقيق في عهد عصبة الأمم المتحدة :
لجأت عصبة الأمم المتحدة إلى طريقة التحقيق خلال الفترة من 1919م إلى 1939م واستعملت هذه الطريقة في المنازعات التالية :-
1- قضية جزر ألاند بين السويد - وفنلندا ، حيث تم تعيين لجنة مقررين مهمتها تزويد مجلس الأمن بالحلول والتثبت من أن سكان هذا الأرخبيل يرغبون البقاء على جنسيتهم الفنلندية أم يرغبون في الجنسية السويدية .
2- قضية الموصل بين بريطانيا - وتركيا ، حيث تم تعيين لجنتي تحقيق تتوليان جمع المعلومات وعناصر التقدير التي من شأنها تعيين الحدود ما بين تركيا والعراق .
3- قضية حادث الحدود ما بين اليونان - وبلغاريا في دامر – كابو حيث عين المجلس لجنة تحقيق مهمتها دراسة أسباب الحادث في مكان حدوثه وتحديد المسؤوليات .
4- قضية النزاع الياباني – الصيني عن اعتداء اليابان على منشوريا ، حيث عين المجلس لجنة تحقيق سميت لجنة ليتون على اسم رئيسها مهمتها دراسة الحادث في مكان وقوعه وتقديم اقتراحات تسوية وقد انسحبت اليابان من عصبة الأمم المتحدة بسبب تبني الجمعية العامة لقرار اللجنة .
تطبيق طريقة التحقيق من قبل الأمم المتحدة :
1- في فلسطين : عام 1947م عينت الجمعية العامة لجنة خاصة مزودة بصلاحيات واسعة لدراسة قضية فلسطين وعلى أساس قرار اللجنة تبنت الجمعية العامة خطة التقسيم .
2- في اليونان : حيث عين مجلس الأمن عام 1946م لجنة تحقيق مهمتها توضيح أسباب الاضطرابات القائمة في شمال اليونان ، وتقرير اللجنة الذي صدر لم تقترن بأي نتيجة وتعذر على المجلس اتخاذ أي قرار .
3- في اليونان : أيضاً حيث عين مجلس الأمن عام 1947م لجنة خاصة مهمتها التحقيق في الحالة العامة في اليونان وفي ما يهدد استقلال وحدتها .
4- في إندونيسيا : عين مجلس الأمن لجنة مهمتها مراقبة انتهاء القتال ما بين هولا ندا وإندونيسيا وكان من جهود اللجنة توقيع اتفاقيات رنفيل .
5- في ألمانيا : عام 1951 م عينت الجمعية العامة لجنة مهمتها التحقيق في إمكانية إجراء انتخابات حرة في هذا البلد إلا أن اللجنة علقت أعمالها بسبب رفض السلطات السوفيتية التعاون معها .
6- في المجر : عام 1957م عينت الجمعية العامة لجنة خاصة من خمسة أعضاء مهمتها المراقبة المباشرة في المجر لتلقي البيانات وجمع الأدلة والمعلومات .
الطبيعة القانونية لأعمال لجان التحقيق :
بعد هذه العرض تبين لنا أن نشأة لجان التحقيق رضائية بحتة ، حيث لا يوجد نص ملزم في عهد عصبة الأمم أو هيئة الأمم يبين أن نشأة هذه اللجان إجباري في وقت معين وفي نزاع معين ... بل أن العرض التاريخي يكشف لنا أن الأساس الوحيد الملزم لهذه اللجان هو في الاتفاقيات والمعاهدات الخاصة بتلك المسألة ، وأن هذه الاتفاقات هي التي ترسم تشكيل لجان التحقيق ودورها والقوة الملزمة لقراراتها ، وذلك لأن هذه المعاهدات بمثابة التشريع في النظام الداخلي ، فالدول عندما تتراض فيما بينها على إنشاء اتفاقية أو معاهدة معينة تقوم بالوظيفة ذاتها التي يقوم بها المشرع الداخلي في كل دولة .
لذلك فإن القوة الملزمة لقرارات لجان التحقيق ينبع من معاهدة إنشاءها ، ومن ثم فالمشكلة تثور حول طبيعة قرارات لجنة التفتيش الحالية على العراق ، فلا يوجد معاهدة معينة يمكن إسناد أو تأسيس أعمال هذه اللجنة بناءً عليها وفقاً لنصوصها لأن مثل هذه المعاهدة هي التي تحدد مقدماً القيمة القانونية لقرارات اللجنة .
وفي غياب مثل هذه الاتفاقية ، وحيث أنه كما رأينا في التمهيد أن لجان التحقيق قد تنشأ للتحقيق في مسألة وجود شيء ما أو عدم وجودة وهو ما يطلق عليه بالنزاع السياسي .
فإن عمل هذه اللجنة ينحصر تحديداً في التحقيق من وجود أسلحة دمار شامل من عدمه ولا يمتد إلى أكثر من ذلك ، وأنه بالنظر إلى وقائع إرسال هذه اللجنة نجد أنها أرسلت من قبل الأمم المتحدة ولاقت قبول من العراق أي يمكن القول أن هناك رضاء من العراق بالموافقة على أعمال هذه اللجنة في التحقيق وكذلك الجماعة الدولية بأسرها باعتبار أن الأمم المتحدة تمثل غالبية دول العالم .
وبذلك يكون للقوة التي أنشأها هذا التراضي بين الأمم المتحدة والعراق على أعمال اللجنة قوته الملزمة للطرفين وفي حق العالم كل ، لأنه يتحدد قيمة الاتفاقية أو المعاهدة على الوصف الذي يصدق على هذه الاتفاقية ، فإذا كانت الأمم المتحدة وهي تمثل الجماعة الدولية تبنت فكرة إرسال لجنة تحقيق على العراق وقابل العراق ذلك بالقبول ، فإن ذلك يعد اتفاقا جماعياً يغلب على حكمه وصف العمومية ، ونلحظ ذلك من نص المادة 103 من الميثاق والتي تقضي بأنه : إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقاً لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي آخر يرتبطون به فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق .
وعليه ووفقاً لتحليلنا للمسألة من المبدأ الذي انطلقنا منه نقول أن نشوء الواقعة أو الرابطة المحددة والتي هي محل نزاع وهي واقعة امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل هي واقعة مادية يسهل التحقق منها لأن هذا مناط عمل لجنة التحقيق .
أما من ناحية وجود القاعدة القانونية التي تحكم ذلك فإن الأمر يستحق الفصل بين القواعد القانونية التي تحكم عمل اللجنة ، والقواعد القانونية التي تطبق في حالة امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل .
أما من ناحية القواعد القانونية التي تحكم عمل اللجنة فإن الأصل فيها يرجع إلى مبدأ التراضي الحاصل بين الأمم المتحدة والعراق على عمل هذه اللجنة وبالتالي فعمل هذه اللجنة ملزم للعراق من ناحية المبدأ فعليها أن تسهل مهمتهم وأن تسمح بعملهم .
أما القاعدة القانونية التي تطبق حال امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل وبمعنى أخر الأثر الذي يترتب على نتيجة أعمال هذه اللجنة في حال ثبوت امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل من عدمه - فإن الفصل في ذلك يرجع إلى مجلس الأمن لا للولايات المتحدة الأمريكية .
فهل يتصدى مجلس الأمن لهذا الأمر ويحافظ على الشرعية الدولية ؟
وهل يعامل العراق من قبل المجتمع الدولي ممثل في الأمم المتحدة في ظل مبدأ المساواة والسيادة الدولية عند النظر في امتلاكه أسلحة دمار شامل بفرض تحقق ذلك أسوة بالولايات المتحدة الأمريكية نفسها وإسرائيل ..... وغيرهما كثر من الدول التي تمتلك أسلحة نووية ؟
(1 ) قرار محكمة العدل الدولية الدائمة الصادر بتاريخ 30/7/1924م بشأن قضية ملفروماتيس .
(2 ) شارل رسو ، القانون الدولي العام ، 283 .
(3 ) قرار محكمة العدل الدولية الدائمة بتاريخ 7 حزيران 1932م حول الخلاف الفرنسي السويسري بشأن المناطق الحرة في جيكس والسافوا العليا .
(4 ) قرار محكمة العدل الدولية الدائمة بتاريخ 7أيلول 1927 م في الخلاف بين ناقلة الفحم التركية بوزكورت والباخرة الفرنسية لوتيس .
(5) في هذه القضية طلبت الولايات المتحدة الأمريكية من بريطانيا التعويض عن الخسائر التي لحقتها من جراء سماح بريطانيا ببناء السفينة ألاباما وتسليحها في المواني الإنجليزية لصالح الجنوبيين الأمريكيين أثناء حرب الأنصال الأمريكية .
(6) فقد نصت المادة التاسعة على أنه ( من المفيد والمرغوب فيه في حالة الخلاف على وقائع نزاع دولي لا يمس شرف الدولة أو مصالحها الأساسية أن تعين الدولتان المتنازعتان لجنة تحقيق دولية تعهد إليها بفحص وقائع النزاع وتحقيقها )
(7 ) شارل رسو ، القانون الدولي العام ، 289 .
(
تولى وزارة الخارجية الأمريكية من عام 1913م إلى عام 1915م .
مع تحيات الأستاذ محمد سالم للإستشارات القانونية
19ب عمارات العبور - صلاح سالم - القاهرة