* مستويات اللسانيات :
تتأثر اللغة على مستويات مختلفة تمتد من مستوى إنتاج الصوت وتنتهي عند النفعية البرغماتية التي تؤدي في النهاية إلى عملية الاتصال وهذه المستويات هي
1) المستوى الصوتي: حيث يعد الإنسان أكثر المخلوقات قدرة على إصدار وأداء الأصوات من أجل التعبير عما يريده ويتم ذلك عن طريق الكلام المنطوق ، أو الإشارات والإيماءات المختلفة المعبر عن إشارات معينة . ويتألف الجهاز الصوتي لدى الإنسان من ثلاثة أقسام رئيسية هي :
*أ* الجهاز التنفسي: يمكن اعتبار الكلام عملا إضافيا يقوم به جهاز التنفس حيث يتم ذلك في سياق الشهيق والزفير، حيث يكون الاستعداد للكلام وفق المخطط التالي :
استنشاق الهواء امتلاء الصدرية قليلا الأخذ في التكلم تقلص عضلات البطن
تدخل الأمعاء إلى الجزء الأسفل من القفص الصدري لتكون سندا قويا لعضلات الصدر تقلص العضلات الواقعة بين الأضلاع بحركات سريعة دفع الهواء إلى الأعلى عند الأعضاء محدثة أصوات تواصل حركات البطن في حركاتها بطيئة مضبوطة الانتهاء من الجملة الأولى والشهيق لبدأ الجملة أو الجمل الموالية .
*ب* الحنجرة والطاقة الصوتية : الحنجرة هي مصدر الطاقة الصوتية لدى الإنسان والحيوان مجهزة برئتين ، تبدو الحنجرة على شكل صندوق غضروفي ، وتقع فوق الرغامي أو القصبة الهوائية الكبرى يبلغ طولها 12سم وقطرها 3سم تقريبا ، وتحت اللسان وأمام البلعوم المتصل بها ، وهي توجد لدى الراشد ، أمام الفقرة الرابعة وتتألف الحنجرة من أربعة غضاريف هي :
- الغضروف الخلفي Le cricoïde
- الغضروف الدرقي Le thyroïde
- الغضروف الطرجحاليان Les deux aryténoïdes
- غضروف ملحق يسمى لسان المزمار Epiglotte
*ج* التجاويف الواقعة خلف المزمار: يمر الصوت الصادر عبر التجاويف التالية :
- البلعوم
- تجويف الفم
- تجويف الأنف
- ولا ننسى الأوتار التي تُعد أهم ما في جهاز التصويت وكذا الشفتين
لابد من الإشارة إلى أنه توجد علاقة قوية بين التنفس وإنتاج الصوت ، ويمكن القول أنه لا تتم عملية إنتاج الصوت بشكل مناسب إذا لم تكن هناك عملية تنفس جيدة ، خاصة إذا كانت كمية الهواء الخارج من الزفير محددة أو إذا اعترض طريق هواء الزفير الخارج أي عائق ، فإن إنتاج الصوت يتأثر كما وجودة ، كذلك إذا لم يكن هناك نوع من التناغم بين هواء الزفير وإنتاج الصوت فإن الكلمات المنتجة تظهر على شكل متقطع وغير طبيعي ، مما يؤدي إلى تشويه التنفس وبالتالي تشويه عملية إنتاج الكلام .
2) المستوى المعجمي: ويقصد به الحصيلة اللغوية التي يتم من خلالها التواصل والاتصال، وجدير بالذكر أن نشير إلى أن لكل مجتمع حصيلته اللغوية التي تشير إلى مجموعة الألفاظ ذات الدلالة الاجتماعية التي تُفهم في سياق ما يقره الجماعة اللغوية ، حيث أن هذه الحصيلة تكتسب عن طريق التفاعل والاتصال ، وتصدر الكلمة الأولى لدى الطفل في السنة الأولى عادة، وبعد ذلك تزيد ثروته وحصيلته اللغوية من خلال تفاعله مع الآخرين وتقليده الأصوات المحيطة به
3) المستوى النحوي:وهو عبارة عن إعراب الكلمات داخل الجمل وضبطها بالشكل وتتراكب الوحدات الصوتية لتكون الوحدات الكلامية Morphème والوحدة الكلامية هي أصغر وحدة من الكلام ذات معنى قد تكون كلمة وقد لا تكون ، والوحدة الكلامية على ثلاثة أشكال تبعا للوحدة الصوتية الأخيرة للأسماء ، كما في حالات الجمع أو المثنى أو المذكر والمؤنث. ويكون ذلك تبعا لقواعد النطق للمفردات اللغوية في لغة معينة
فالمستوى النحوي يبحث في كلمات الجملة وتراكيبها وترتيبها وأثر كل كلمة منها في الأخرى تقديما وتأخيرا ، أي علاقة كلمات الجملة ببعضها البعض وكذلك أنواع الجمل ووظيفتها "اسمية أو فعلية" ولا يعدل الترتيب النحوي إلا لغاية بلاغية ، كما في الضرورة الشعرية أو البلاغية.
4)المستوى الدلالي : والمقصود به الاهتمام بالدلالة أو المعنى ومن أشهر العلماء الذين اهتموا بالمعنى الذي تنتجه اللسانيات نجد العالم الفرنسي جوسيف قيلام Gustav Guillaume ، وكذا العالم اللساني بيرناند بوتيBernard Potier والعالم الروسي Igor Mel Chuk، وقد اهتم هؤلاء العلماء بدراسة المعنى والدلالة التي تحملها أو تشحن بها الكلمات والجمل، ولقد ساهم في دراسة المعنى أو الدلالة "علم المنطق" الذي اهتم بدراسة موضوع الحقيقة وموضوع الاستدلال ، وأيضا "علم المعرفة" الذي ساهم بدراسة مواضيع مهمة تتعلق بالتميز، الفهم، التصنيف.
5) المستوى البرغماتي : لقد أشنا في نقطة سابقة أن مصطلح البرغماتية كثير التداول والاستعمال في العديد من العلوم كالفلسفة والسياسة والإقتصاد….وغيرها ، لكنه ظهر أيضا في اللسانيات حيث حاول العلماء من خلاله معرفة السيرورات أو العمليات النفسية التي تتم بين الأفراد عندما يكونون في اتصال فيما بينهم ، ويشير المستوى البرغماتي في اللسانيات إلى ثلاثة أبعاد مثل يؤكد "سيرل وأستان":
- الجانب اللفظي: الذي يقصد به العملية الحركية لجهاز النطق عند نطق الكلمات
- الجانب الإيعازي أو القصدي : الذي يقصد به ماذا يقصد الشخص من هذا الكلام
- الجانب ما وراء النطق: الذي يقصد به الهدف أو الغاية التي يريدها الشخص من الكلام.
:الفونيتيك والفونولوجيا
إن دراسة أصوات اللغة تقتضي مرحلتين : الأولى تخص المادة ذاتها ، والثانية تعني بتجريد هذه المادة والوصول بها إلى صورة قواعد وقوانين عامة ، أي القواعد والقوانين الصوتية للغة معينة . يطلق على المرحلة الأولى من الدراسة "الفونيتيك" وعلى الثانية "الفونولوجيا "
1) الفونيتيك :Phonétique
1-1 تعريف الفونيتيك : يقصد به :"دراسة الأصوات من حيث كونها أحداثا منطوقة بالفعل ذات تأثير سمعي معين بغض النظر عن قيمة هذه الأصوات أو معانيها في اللغة المعينة" ، وهو يهتم أيضا:" بالمادة الصوتية لا بالقوانين الصوتية وبخواص هذه المادة أو الأصوات بوصفها ضوضاء لا بوظائفها في التركيب الصوتي للغة من اللغات .
كما يعرف أيضا بأنه :" العلم الذي يهتم بدراسة الأصوات المنطوقة في لغة ما وتحليلها وتصنيفها بما في ذلك طريقة نطقها وانتقالها وإدراكها
فالفونتيك إذن يدرس الأصوات التي تتكون منها اللغة وما تعتمد عليه من أعضاء النطق واختلاف الأصوات التي تتكون منها الكلمة في لغة ما وكذا القواعد التي تخضع لها كما يهتم أيضا بالفعل في الكلام ؛ فينظر في حركات أعضاء النطق وأوضاعها كما يلاحظ الذبذبات والترددات الهوائية الناتجة مباشرة عن هذه الحركات والأوضاع.
لقد استخلص العلماء حقيقة مفادها أن الفونيتيك هو العلم الذي يدرس الصفات الفيزيائية للأصوات بالأجهزة العملية التي تسجل تنوعات لا حدود لها للأصوات التي يمكن أن ينتجها الجهاز النطقي للإنسان ويقوم علم الأصوات بناءا على ذلك بدراسة وصفية لأصوات.
ومن هنا يمكن أن نصل إلى الحديث عن المجالات التي يهتم بها "علم الأصوات " أو الفونيتيك والتي حددها العلماء في المجالات التالية :
- يصف جهاز النطق وصفا تشريحيا دقيقا
- يحدد مخارج الحروف والأصوات ويضبط عملها ووظيفتها في التجاويف الصوتية
- يبحث في الصوت من حيث جهز الاستقبال ويبين كيف تتلقى الأذن الصوت وتحوله عبر الأعصاب الناقلة إلى الدماغ (أي كيف تتحول الرسالة الصوتية إلى مدركات سمعية في الدماغ)
- يصف النشاط العصبي ، والفيزيولوجي والعضلي أثناء إنتاج الأصوات واستقبالها
إذن يمكن أن نستخلص من خلال هذه التعاريف المختلفة للفونيتيك أنه العلم الذي يدرس الصفات الفيزيائية للأصوات باستعمال الأجهزة العلمية التي تسجل مختلف الأصوات التي يمكن للجهاز النطقي للإنسان إنتاجها وتشكيلها، وبناءا على ذلك يقوم الفونيتيك بدراسة وصفية للأصوات،
وبما أن علم الأصوات"الفونيتيك" يهتم بدراسة الوحدات الصوتية التي تدعى" الفونيم" - الذي سبق تناوله في فصل سابق-لابد أن نقف برهة مع هذا المصطلح لنشير إلى أن العلماء اللسانيين خاصة اختلفوا في تحديد مفهومه باختلاف أطرهم النظرية ومرجعيتهم الفكرية .
فالفونيم هو أصغر وحدة صوتية تتميز عن غيرها من الوحدات بمجموعة من السمات الصوتية ، قادرة على تمييز كلمتين مختلفتين (مثال حائط، حائر) التين تختلفان في جزء واحد هو الصوت الأخير (ط، و، ر)
ويرى من جهة إبراهيم الزريقات أن الفونيم هو:"أصغر وحدة في اللغة التي إذا وجدت مع غيرها من الوحدات فإنها تكوّن معاني لكلمات يسهل التمييز فيما بينها، فالفونيم وحدة لغوية مستعملة في نظام لغة محددة "
1-2 تاريخ الفونيتيك : اهتم العلماء بالأصوات وخصائصها اهتماما بالغا ، خاصة من قبل علماء اللسانيات، فهو علم قديم في حلة جديدة ، فقد تناوله العرب القدامى ، وطوره العلماء في العصر الحديث ، حيث بدا الاهتمام به منذ بدايات القرن السادس عشر حتى يومنا الحالي ، فتنوعت الإصدارات، وظهرت الكتب التي اهتمت بمجال من مجالات هذا العلم مثل: الإملاء، علم الفظ ، علم الألفاظ، …الخ
ومن الدراسات التي نالت تقدير العلماء اللسانيات في العصر الحديث العالم إراسموس Erasmus الذي ألف كتابا في الصوتيات، ويُعد هذا الكتاب ذا قيمة علمية بالغة ليس في عصره فحسب بل في العصر الحديث أيضا ، وقد تناول فيه قضايا النطق الصحيح في اللغتين الإغريقية واللاتينية
فابتداء من العام1870م أخذ علم الأصوات طابعه العلمي والموضوعي بفضل تطور المجالات العلمية المختلفة التي أفادت الفونيتيك خاصة الجانب التشريحي والفيزيائي
وبما أن علم الأصوات يعد من العلوم التي تتطلب الدقة العلمية الكبيرة فإن التأليف في هذا الميدان لم يلقى إقبالا واسعا كما هو الشأن في بقية الفروع اللغوية الأخرى، وهذا ما ذهب إليه مونالMonal حينما أكد أن الفلاسفة والأدباء وعلماء الاجتماع وحتى علماء النفس في تلك الحقبة أي في القرن التاسع عشر ، لم يهتموا في جانب اللغة إلا بدراسة اللغة ومفرداتها ودلاللاتها، أما الفونيتيك فلم يشهد انفجارا علميا مثلما شهدته بقية العلوم.
ومن العلماء الذين أسهموا في دراسة علم الأصوات في عصر النهضة، نجد كلا من : هولدرHolder وهارتHart وهيومHume وبولاكرBoullakar وربينسونRobinson وبولترBoulter وليس Wallis
1-3 صفات الأصوات:
صفات الأصوات عند القدامى : الأصوات في نظر الأقدمين تتوزع إلى مناطق خروج الأصوات وكيفيات التكلم ، فنجد لديهم :
1- الأصوات المهجورة والأصوات المهموسة
2- الأصوات الرخوة والحروف الشديدة
3- الأصوات المتوسطة بين الشدة والرخاوة
4- الأصوات المستقلة
1-4 القيمة التعبيرية والإيقاعية للصوت اللغوي:
إن استثمار خصائص البنية الصوتية، والاستعانة بالقدرات التعبيرية والإيحائية لبعض الأصوات اللغوية، يساهم -إلى حد كبير- في تجسيد الصور الشعرية للكلمة والصوت، من خلال استغلال هذه الأصوات في الإيحاء بالمعنى ومحاكاته، قصد تقويته، وتوضيحه وتقريبه إلى الذهن.
وتتمثل المحاكاة في ذلك التقليد المباشر لأصوات الطبيعة، حيث تستمد المفردات أصواتها من التوالي الذي ترد به في الطبيعة، نحوه خرير، دوي، هدير، حفيف…وهنا ترتبط الدلالة مباشرة بتوالي الأصوات في النطق على مستوى الكلمة المفردة.
كما تستمد الدلالة الصوتية، أيضا، من الانسجام الموجود بين بعض أصوات الكلمات في التركيب اللغوي إجمالا، وهنا تتضح، وبصورة أوسع القيم التعبيرية والإيقاعية لأصوات اللغة التي تتضافر ضمن سياق نصي عام، تؤدي وظيفتها فيه كعنصر غير مستقل يرتبط بباقي الأشكال اللغوية بغية تحديد الدلالة العامة للسياق؛ فالدلالة في هذه الحالة لا تستشف من الكلمات المفردة، إنما من التراكيب، التي يعمد المتكلم فيها إلى "إيراد جملة أو عبارة مؤلفة من كلمات ذات صفات صوتية معينة ومرتبة ترتيبا موسيقيا خاصا، تنقل السامع إلى الصورة المراد التعبير عنها، وتجعله يعيش فيها، أو تنقل إليه هذه الصورة، وتجعلها بين يده، قريبة منه، …فوظيفة التركيب إنما هي للإيماء إلى المعنى أو الإيحاء به، وليست وظيفته التقليد أو المحاكاة المباشرة"، ويمكن التمثيل لهذا، بقوله تعالى في سورة الناس:"من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس"([1])، حيث يؤدي صوت السين بخاصية الهمس التي في جرسه، دوره في الإيماء بالمعنى ونقل الصورة المعبر عنها في التركيب القرآني، وهي صورة وسوسة الشيطان للإنسان.
وتوظيف بعض هذه الأصوات، بصفاتها الخاصة، في الكلمات والعبارات للإيحاء بالمعنى ويضفي على النص إيقاعا مميزا، ويمنحه إيحائية خاصة تتجه بالدلالة إلى الآفاق التي يرتئيها المتكلم ، من خلال الربط الخاص بين الدوال ومدلولاتها، باستقراء المعاني الكامنة في بعض الأصوات المتوالية على نسق مخصوص، والذي يتوافق مع الدلالات العامة للنص، "وعلى الرغم من أن هذا المبدأ يتنافى مع مبدأ اللسانيات القائل باعتباطية العلامة اللسانية، إلا أنه مبدأ لصيق بكل ممارسة شعرية، إذ تجنح الدوال في الشعر إلى التعليل من دون أن تكون سلبية كما في اللغة الاتصالية، فتحاول سوغ العلاقة بينها وبين الدلالة عبر الإيحاء المضمن فيها"
2) الفونولوجيا: عند مقارنة الفونولوجيا بالفونيتيك نجد هذا الأخير ذو مدلول ضيق نسبيا عند مقابلته بالفونولوجيا، فهو يسمى علم الأصوات الكلامية ويهتم بدراسة وحدات الأصوات الأساسية التي تكّون الكلام وتكون قادرة على التفريق بين معاني الكلمات
لقد أكد علماء اللغة أن الفونولوجيا تتضمن التغيرات التي تطرأ على شكل الكلمات التركيبية للصيغ وعلاقاتها التصريفية من ناحية والاشتقاقية من ناحية أخرى.
فالقواعد المورفولوجية تتضمن التغيرات التي تطرأ على شكل الكلمات في حالة تغير تركيبها وذلك بتغير معانيها .
تسمى الفونولوجيا علم الأصوات الوظيفي .
وتسمى أيضا علم الأصوات النظامي.
كما تسمى أيضا علم دراسة المعاني حسب الوظائف الموجودة في لغة معينة .
فالفونولوجيا هي ذلك الفرع من اللسانيات الذي يهتم بوصف الأنظمة الفونيمية التي تظهر في اللغة ، فعلم الأصوات الوظيفي يحدد الخصائص الصوتية الفونيمية اللغوية المحددة والقواعد التي تصف التغيرات الناتجة وبذلك تظهر الفونيمات كعلاقات مختلفة مع فونيمات أخرى.
ومن التعريفات المعطاة للفونولوجيا أيضا:اعتباره العلم الذي يدرس الأصوات أثناء سلوكها في مواقعها، وضمن سياقاتها اللغوية.
*موضوع الفونولوجيا :
إن موضوع الفونولوجيا هو الأصوات من حيث تأليفها، تركيبها أثناء الأداء الفعلي للكلام أي أن هذا العلم يدرس الأصوات من حيث خصائصها الوظيفية في الخطاب اللغوي وكذلك وصف الوقائع الصوتية الملائمة في إطار لغة معينة، ويمكن تحديد مجال اهتمام الفونولوجيا بـ:
- الاهتمام بأوجه الشبه والاختلاف بين الأنظمة الصوتية ومستوى الفونيمات الأولية والثانوية .
- الاهتمام بدراسة الفروق الوظيفية بين الأصوات مع تحديد طبيعة وخصائص وتوزع كل منها.
- الاهتمام ببيان العلاقات الدلالية للوحدات اللغوية داخل أنساق اللغة وبنائها وتركيبها.
1- تعاريف علم النفس اللغوي:
لقد تعدد التعاريف التي أعطاها العلماء لعلم النفس اللغوي حسب مشاربهم الفكرية وتوجهاتهم العلمية ، لكن ما يمكن التنويه به إجماع هؤلاء العلماء على اعتبار اللغة تتأثر بالجانب العقلي والنفسي للفرد . فالحاجة الماسة إلى فهم ودراسة اللغة ينبع من كونها المفتاح أو البوابة لفهم السلوك البشري الخاص بالأفراد . ولقد استطاع علم النفس أن يجعل اللغة أحد موضوعاته التي يدرسها لتحديد العوامل السيكولوجية المختلفة التي تدخل في ارتقاء واستخدام اللغة سواء لدى الأسوياء أو غير الأسوياء.
إن علم النفس اللغوي مثال حي على التفاعل الوظيفي بين مجالين هما علم النفس المعرفي واللغة فهو إذن "فرع في اللسانيات التطبيقية وفيه يحاول العلماء التأكيد على العلاقات بين الرسائل المتبادلة بين المتحدثين والمقاصد والنوايا ، أو الحالة العقلية والنفسية للمتكلمين"
*تعريف علماء اللغة:يطلق علماء اللغة على علم النفس اللغوي اسم" علم اللغة النفسي" ويعرفونه على أنه: ذلك الفرع من علم اللغة التطبيقي الذي يدرس اكتساب اللغة الأولى وتعلم اللغة الأجنبية والعوامل النفسية المؤثرة في هذا التعلم ، كم يدرس عيوب النطق والعلاقة بين النفس البشرية واللغة بشكل عام "
*تعريف تشومسكي:يرى بأن علم اللغة يجب أن يكون فرعا من فروع علم النفس الإدراكي حيث يرى بأن علم النفس اللغوي يدرس العلاقة بين اللغة والفكر والعقل الإنساني ."
*تعريف علماء النفس: يرى علماء النفس أن علم النفس اللغوي فرع من فروع علم النفس يهتم بدراسة" العلاقة بين صور التواصل أو الرسائل وبين خصال الأشخاص الذين يجري بينهم التواصل" أو هو " دراسة اللغة كما ترتبط بالخصائص الفردية أو العامة لدى مستخدمي اللغة ، وتشمل العملية التي يستخدمها المتكلم أو الكاتب في إصدار الإشارات أو الرموز العملية التي يعادلها تحويل وتفسير هذه الرموز(فك الترميز)"
*تعريف كوهلر : علم النفس اللغوي مجال اختصاص يمزج بين علم النفس والألسنية لدراسة استعمال اللغة ولدراسة على وجه الخصوص السياقات النفسية الكامنة وراء إنتاج المواد الألسنية وفهمها وتذكرها والتعرف عليها.
2- نبذة تاريخية عن علم النفس اللغوي:
ترجع العلاقة بين اللغة وعلم النفس إلى طبيعة اللغة باعتبارها أحد مظاهر السلوك الإنساني ، وحيث أن علم النفس يعنى بدراسة السلوك الإنساني عامة ، فإن دراسة السلوك اللغوي تُعتبر حلقة اتصال بين علم اللغة وعلم النفس .
وقد اهتمت المدرسة السلوكية اهتماما بالغا بالسلوك اللغوي ، وكان لها أثر واضح في البحث اللغوي الأمريكي في النصف الأول من القرن الماضي، لكن البحث في قضايا اللغة من وجهة نظر اللغويين تختلف كثيرا عنه من وجهة نظر علماء النفس، فالفرق شاسع بينهما، إذ يهتم علماء اللغة بدراسة العبارات اللغوية المنطوقة عند صدورها من الجهاز الصوتي وعند تلقيها من طرف المخاطب، وهنا نلاحظ أن العمليات العقلية لا تدخل ضمن مجال علم اللغة، بينما يهتم علماء النفس بتلك العمليات العقلية التي تسبق تلك العبارات المنطوقة وانصب اهتمام الباحثين في الآونة الأخيرة بدراسة اللغة لا من حيث أنها استجابات لغوية فحسب ، وإنما من حيث البنية اللغوية في تلك الاستجابات .
وقد كانت لآراء تشومسكي في قواعد النحو التحويلي الأثر البالغ في ظهور "علم النفس اللغوي " حيث استبدل مصطلح Psychologie du langage إلى psycholinguistique أي من علم نفس اللغة إلى علم النفس اللغوي وهو يدل على نوع من التغيير في اتجاهات علماء النفس بالنسبة إلى موضوع السلوك اللغوي والظاهرة اللغوية.
وقد تأثر علماء النفس الذين درسوا اللغة بمؤثرين هامين هما :
- نظرية التعلم ونظرية الاتصال أو المعلومات
فنظرية المعلومات التي نمت على يد شانون وويفرShannon et Weaver كان لها أثر عميق على علم اللغة ، حيث يتمركز هذا التأثير حول حقيقة أن استخدام اللغة يتطلب ممن يستخدمها دراية وخبرة تمكنه من تتبع أية نقطة في رسالة كلامية أي معرفة الاحتمالات المتتابعة لجميع مستويات اللغة وأيضا أن تكون الرسالة ذات معنى وبالتالي يمكن للمستقبل أن يتلقى الرسالة التي يدركها عن طريق النظام الرمزي الشفري code.
أما نظرية التعلم فقد كانت إسهاماتها من خلال أعمال مدرسة فرزبرج Würzburgالتي انطلقت من كون مثيرات الوسط الذي يوجد فيه الفرد سواء كانت لغوية أو اجتماعية أم طبيعية ليست هي المثيرات الوظيفية التي تدفع الفرد للقيام بالنشاط والسلوك ، حيث أن هذه المثيرات تؤثر على الخلايا العصبية ومنها تصل إلى المخ والتكوين الإنساني ويطلق عليها المدخلات ، حيث يقوم الفرد في تفسيرها ومعالجتها بطريقته المعينة ومن ثم يتأثر السلوك بهذا التفسير والمعالجة.
3- موضوع علم النفس اللغوي: يدرس علم النفس اللغوي العديد من المجالات التي تشكل حلقة وصل بين اللغة والنفس البشرية :
- الاهتمام بالإدراك ومدى اختلاف الأفراد فيه
- عيوب النطق
- العلاقة بين النفس البشرية واللغة بشكل عام
- العلاقة بين اللغة والعقل الإنساني
- العلاقة بين اللغة والتفكير باعتبارهما عمليتين عقلية ونفسية
- اضطرابات اللغة والتفكير عند بعض المضطربين عقليا كالفصاميين
بمعنى آخر يهتم علم النفس اللغوي بـ:
- دراسة أهم العمليات العقلية التي تمكن الناس من إدراك وفهم ما يسمعونه
- دراسة العمليات العقلية التي تمكن الناس من قول ما يريدونه (إنتاج اللغة)
- دراسة الطريق الذي يتبعه الأطفال في تعلم كيفية فهم وإنتاج اللغة في المراحل العمرية المبكرة (الاكتساب والارتقاء)
3- منهجية الدراسة في علم النفس اللغوي: يتبع علماء النفس اللغوي العديد من المناهج للوصول إلى الأهداف المسطرة لفهم اللغة في سياقها النفسي ومن بين هذه المناهج :
3-1 منهج دراسة الحالة : وهو أحد المناهج المستخدمة في الدراسات الإنسانية وأكثرها ملائمة وقدرة وفعالية في الكشف عن خبايا حياة الفرد. وكثيرا ما عُد من الأدوات التي تخص المنهج الإكلينيكي ، وهناك من العلماء من يعده منهجا قائما بحدا ذاته .
يقول J.DELAY وP.PICHOT في هذا الصدد :" يهدف منهج دراسة الحالة إلى إبراز الشيء النوعي الأكثر خصوصية عند الشخص المدروس عن طريق دراسة الحالات و المقابلات " .
فمنهج دراسة الحالة هو طريقة تنظر إلى السلوك بمنظور خاص، فهي تحاول الكشف بدقة وبعيدا عن الذاتية كينونة الفرد و الطريقة التي يشعر بها و يسلك من خلالها، وذلك في موقف ما ، كما يبحث في إيجاد مدلول السلوك والكشف عن أسباب الصراعات النفسية مع إظهار دوافعها وصيرورتها وما يحسه الفرد إزاء هذه الصراعات من سلوكات تتخلص منها (REUCHLIN, M 1960 P : 10). إن دراسة الحالة يتم عن طريق جمع البيانات ودراستها و تركز على الموقف الكلي أو مجموع العوامل التي تساعد في إيجاد سلوك معين و تحليل الحالات أو مقارنتها ، وهي طريقة لتنظيم المعطيات النفسية و الاجتماعية لموضوع له ميزة خاصة ، وهي بالإضافة إلى ذلك طريقة تحليلية استكشافية للعوامل المتشابكة التي لها أثر في قيام موضوع الدراسة .
فهذا الأداة لمن يبحث في القضايا الاجتماعية والمشكلات الانسانية وحتى اللغوية ، تُستعمل لفهم وضعيات انسانية وحل هذه المشكلات،وتُستعمل خصيصا للتكوين من أجل التشخيص، واتخاذ القرارات اللازمة في مجال مشاكل الإنسانية واللغوية.
وفي اللسانيات وعلم النفس اللغوي سيساهم هذا المنهج في فهم طبيعة الأصوات اللغوية ومستويات تركيبها وكذا الاضطرابات الناتجة لدى الأفراد من خلال سياق هذه الاضطرابات اللغوية.
3-2) المنهج ما بين الفرعي ومتعدد الفروع: إن المنهج ما بين الفرعي هو المنهج الذي يعتمد في دراسة ظاهرة ما، على المزج بين منهج علمين مختلفين وبالتالي سيكون المنهج المتعدد الفروع هو المنهج المعتمد على مناهج الفروع المختلفة التي تساهم في وضع الظاهرة
وفي علم النفس اللغوي سيحتاج هذا العلم إلى مساندة الكثير من العلوم منها علم التشريح، علم اللغة، علم النفس، علم الاجتماع…الخ وسيحاول أن يعتمد على مناهج هذه العلوم حتى يتسنى له فهم الظاهرة اللغوية .
3-3) المنهج المقارن: يعتمد هذا المنهج على دراسة الظواهر انطلاقا من الدراسات المقارنة ، فالمنهج المقارن يختص بدراسة العلاقات التاريخية بين لغتين أو أكثر ضمن أسرة لغوية واحدة ، من المعروف أن اللغويين في القرن التاسع عشر توصلوا إلى تقسيم اللغات إلى مجموعات أو أسر معينة يضم كل منها فروع متعددة .
أكد المنهج المقارن على دراسة النحو Grammaire، باعتباره ممثلا لقاعدة بيانات معيارية تراكيب اللغة، والموجه لسيرها ورسم حدودها النظمية. والمقارنة إنما في رأي الأغلبية تجرى بين لغتين أو أكثر من أرومة أو فصيلة أو أسرة لغوية واحدة ، كالفصيلة السامية (Semitic Family) وما يتفرع منها من لغات أو فصيلة الهندوأوروبية (Indo –European Family) من حيث الأصوات وتشكيلاتها وبناؤها ومخارجها وصفاتها ووظائفها كذلك دراسة البناء الصرفي ، وحدوده المختلفة والبناء الدلالي والقاعدي ، المعياري ، والعروضي والبلاغي .
واللسانيون المقارنون يقومون بالمقارنات ويسجلون درجاتها بغية الوصول إلى حدود اللغة الأم أو اللغة الأصلية . ويصل المقارن للغة الأم عن طريق استقراء النتائج التي توصل إليها وإقامة بعض القوانين الصوتية. ويعتمد بناؤها بشكل غير مباشر على الاتجاهات اللغوية التي تتسم بالثبوت والرسوخ من مثل:
-كل لغة لا بد أن تتناوبها مجموعة من اللهجات .
-كل لغة لا تكون إلا إذا استعملتها الجماعة اللغوية
-كل لغة تحمل خصائص وراثية مستقلة
-كل كلام يصطبغ بلون الطبقة الاجتماعية، في الزمان والمكان المعينين وكان من نتاج هذا المنهج المقارن:
-إنتاج مجموعة من الكشافات القاموسية الاشتقاقية للمجاميع اللغوية الكبيرة مثل قاموس فالد بوكورني (Wald Pokorney) وقاموس كارل درلينغ بوك (carl darling buck) في مترادفات اللغة الرومانية الهندوأوروبية ، وقاموس دييز (Diez) في اللغات الرومانية .
-إعادة بناء وتقويم النصوص اللغوية غير الموثوق بصحتها التي عالجت الكثير من الظواهر اللغوية وقدمت الأعمال الأدبية في ميادين الشعر والنثر واللغة.
- وتيسير البحث في ميادين العائلات اللغوية بما يقدمه من تحليلات ومقارنات لإعادة بنائها . وبيان صلاتها وعلاقاتها وروابطها التركيبية وصولا إلى اللغة الأم وتفرعاتها . كاللغات السامية ، واللغات الهندوأوروبية .
وأهم المجموعات التي توصل اللغويون إلى تفسيرها إلى أسر معينة يضم كل منها فروع متعددة هي المجموعة الهندوأوروبية ، والمجموعة السامية ، أما ما دعي بالمجموعة الطورانية فليس قائما على صلات القرابة بل هو جمع للغات لا تنتمي إلى إحدى المجموعتين السابقتين ولا ترتبط إحداهما بالأخرى .
3-4 المنهج التاريخي: رافق المنهج التاريخي في تتبعه لحركة اللغة المنهج المقارن، وهو يكشف جوانب التماثل في المنظورات والظواهر اللغوية لمستويات التحليل المختلفة سعيا وراء البحث عن أصل اللغات ، حتى أن كثيرا من المعنيين بدراسة البيانات اللغوي ، اعتقدوا بأن كلا المنهجين يسيران بخط متواز مع الآخر في اعتماد على حقائقه التي يكشف عن سرها عبر منهجيته المتبعة . ويبدو ذلك واضحا من خلال مجموعة الدراسات المقدمة عن مختلف اللغات حتى القرن التاسع عشر ، وإلى هذا الجانب أشار اللغوي جورج مونين قائلا :" حقيق بأن تقر ونعترف بأنة لا يوجد علم يسمى بالقواعد المقارنة ليس إلا شكلا من أشكال علم اللغة التاريخي ، فإذا ما أردنا بحث القواعد المقارنة لإحدى اللغات درسنا تاريخ هذه اللغة – على هدى الطريقة المقارنة – إن هذا الطرح فيه بعض التطرف وإن كان لا يخلو من إيجابية منطقية وهو ليس دعوى صريحة لنتيجة المنهج المقارن ، وتنصيب التاريخي محله وعلته التداخل بين المنهجين .
يتناول المنهج التاريخي دراسة حالات التطور للظواهر اللغوية عبر مراحلها الزمنية . ويشمل المنهج التاريخي تحولات اللغة في جوانبها البنائية وتوزعها على شكل لهجات ، ويشمل ذلك تحول اللهجة الواحدة إلى لغة عامة بين أبناء الجماعة اللغوية ، كما يهتم بدراسة عوامل الانحسار اللغوي عن الإقليم الجغرافي للغة من اللغات وتسجيل العوامل المؤثرة والظواهر والبصمات المأثورة عن هذه اللغة .
يعتمد المنهج التاريخي على اللغة المكتوبة لأنه يعتقد أن اللغة المنطوقة لا تمثل إلا شيئا مخادعا وصورة مضللة. والذي يستحق الدرس والتحليل والمناقشة وصولا إلى الحقائق العلمية هو اللغة المكتوبة.
يختص المنهج التاريخي بدراسة التطور اللغوي عبر الزمن من خلال الوقوف على التطور الاجتماعي والثقافي والعلمي وكل المعطيات المؤثرة في اللغة .
3-5 المنهج الوصفي : يرى كارل بيرسون أن كل من يصف الوقائع وينظر في علاقاتها المتبادلة و يصف صياغتها إنما هو رجل علم يطبق المنهج العلمي فالمنهج الوصفي يُعتبر الطريقة المنظمة لدراسة الحقائق الراهنة المتعلقة بظاهرة أوموقف أوأفراد أو أوضاع بهدف اكتشاف حقائق جديدة أوالتأكد من صحة حقائق قديمة، و آثارها والعلاقات التي تتصل بها وتفسيرها والكشف عن الجوانب التي تحكمها. ويعرف أمين الساعاتي المنهج الوصفي بأنه يدرس "الظاهرة كما توجد في الواقع ويهتم بوصفها وصفا دقيقا ويعبر عنها كيفيا أو كميا؛ فالتعبير الكيفي يصف لنا الظاهرة ويوضح خصائصها ،أما التعبير الكمي فيعطيها وصفا رقميا يوضح مقدار هذه الظاهرة أو حجمها أو درجة ارتباطها مع الظواهر
ومن أهداف هذا المنهج عدم الوقوف عند حد الوصف فقط بل يتعدى ذلك إلى التفسير و التحليل والمقارنة والاستنتاج لكي تتضح الظاهرة المدروسة أكثر، وهو يتلاءم كثيرا مع مع دراسة الظاهرة اللغوية حيث يعتمد بالأساس على اللغة المنطوقة، وينظر إلى الظاهرة اللغوية نظرة وصفية، تقوم على الملاحظة المباشرة. ويبدوا أن اللسانيات الحديثة في سعيها لتطبيق هذا المنهج على ظواهر المنظومة اللسانية كان نتيجة غرق الدرس اللغوي في تيارات المنهج الاستدلالي ، فسعت جاهدة لتخليصه من هذه النزعة. آخذة اللغة لذاتها . دون أية نظرة تفرض عليها من خارج الدائرة اللغوية .
اكتساب ، إنتاج وإدراك اللغة
يولد الطفل وهو مزود بالقدرة على التعبير ، إلا أنه لا يستطيع القيام بهذه الوظيفة فعلا إلا بعد أن تصل الأجهزة الداخلية الخاصة بالكلام إلى درجة معينة من النضج، حيث تعتبر هذه الأجهزة هي المسئولة عن نمط استجابي معين ويحقق وظيفة معينة للفرد وهي عملية الكلام نفسها.
حيث يتعلم الطفل الكلام في وقت معين ، واللغة التي يتعلمها هي التي يسمعها من أبويه والمحيطين به، إلا أن قدرة الطفل على تعلم لغة ما مشروطة بنضج جهازه الصوتي ووظائفه العقلية ، بيد أن الطفل يمر بمراحل معينة حتى يتعلم لغة أبويه وحتى يمكنه الكلام بهذه اللغة بطلاقة وفي الواقع أن عملية الكلام تتم بطريقة آلية دون أن يشعر الفرد بخصائص هذا الكلام ومثله في ذلك كمثل من يقود سيارة ففي بداية الأمر يشعر شعورا قويا بحركات رجليه ويديه أثناء تعلم القيادة ، أما بعد أن يمارس هذه العملية عدة مرات ويتقنها فإنه في هذه الحالة لا يكون انتباهه وتركيزه على حركات رجليه إطلاقا بل يتعامل مع القيادة أوتوماتيكيا. كذلك الحال بالنسبة للطفل فإنه في بادئ الأمر يشعر شعورا قويا بتركيب الأصوات في لغة أبويه واختلاف الصيغ والربط بين الكلمات في الجملة حتى تتم مراحل نمو اللغة لديه، وعندئذ لا يكون تفكيره وتركيزه منصبا على خصائص تلك الأصوات أو تلك العبارات .فالطفل يولد وينمو في بيئة مشحونة بأصوات ذات دلالة ومعنى ، أي أن الطفل يكون محاطا باللغة من جميع الاتجاهات .
1- مراحل اكتساب اللغة عند الطفل: يمر اكتساب الطفل للغة بعدة مراحل يمكن إيجازها في المراحل اللغوية التالية :
1-1 مرحلة ما قبل اللغة :والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بلحظة الميلاد التي يعبر فيها الطفل عن قدومه إلى الحياة بالصراخ ، هذا الأخير الذي فسره العلماء على اختلاف توجهاتهم تفسيرات شتى فالفسيولوجيين يعتبرونه مجرد اندفاع الهواء إلى الرئتين وإلى المجاري الهوائية التنفسية ، ويعتبره علماء النفس التحليل خاصة أوتو رانك (O.Rank)تعبير عن أولى الصدمات التي تعترض حياة الفرد وهي"صدمة الميلاد" بعد انفصال الطفل عن بطن أمه . فعن طريق الصراخ يتم الاتصال بين الطفل ومحيطه الاجتماعي خاصة الوالدي ، كما يساهم الصراخ أيضا في عملية هامة جدا هي تعلم الطفل عن طريقه أن يركز التنفس حسب قوته ودرجته.
كما يلعب الصراخ أيضا دورا في تكوين التناسق الحسي الحركي الذي يسبق اللغة ، فالطفل يلاحظ أنه عن طريق الصراخ تلبى له الكثير من الحاجات الفيزيولوجية والنفسية (جلب الأم لحمله وإرضاعه) ثم يتطور ليصبح صراخا انفعاليا يعبر عن حالة نفسية ، وبذلك يصبح الطفل إشارة يستعملها الطفل كلما أراد شيء وأول وسيلة لاكتشاف الوظيفة الرمزية للغة.
بداية الاتصال بين الطفل والراشدين ترتكز خاصة في العلاقة بين الطفل والأم، ففي داخل هذه العلاقة يبدأ تكوين اللغة ، نلاحظ على الطفل قبل التغذية أو الرضاعة حركة مسبقة وهو صوت المص في الفراغ في غياب الثدي وهو يفعل ذلك إراديا ، بعد هذه الحركة تأتي حركة صوتية أكثر انسجاما واتساقا هي المناغاة(حوالي شهر) التي عن طريقها يتكون الحوار بين الطفل والأبوين ، فالأم تجيب باللغة والكلام والطفل يعيد المناغاة، وتقل المناغاة حينما يصبح لها هدف
1-2 مرحلة لغة الصغار : كل ما يسبق هذه المرحلة يكتسب بالإعانة الخارجية (المحيط، الأبوين ) خاصة مع دخول الأب في العلاقة مع الطفل حيث يكون له دور إيجابي جدا في فهم الطفل وجعله يتلفظ ببداية كلمة ، أما الأم فإن طفلها يتأثر بصوتها أكثر من تأثره بأصوات آخرين ، وينتقل الطفل أثناءها من مرحلة إنتاج الأصوات غير المفهومة المختلفة إلى مرحلة إنتاج أصوات لها معنى ، فيبدأ تكوين العلاقة بين الصوت واللغة .
يبدأ أيضا في هذه المرحلة فهم المضادات ، وفي الشهر العاشر يمكن للطفل أن يفرق بين بابا وماما ، والشيء الذي يساعد على دخول اللغة في السلوكات الاجتماعية هي القدرة على التمثيل التي تتطور في خط متوازي مع اللغة ، وحسب بياجيه "اللغة عبارة عن عبارات التمثيل " في هذه المرحلة ينتج الطفل وحدات لها معنى لكنها كلمات متقاطعة أو على شكل مقاطع، ثم يتوالى اكتساب الكلمات والمعاني ودلالاتها بعد نمو الطفل الذي يسانده النمو الحسي الحركي، الاجتماعي النفسي…الخ حيث يكون الطفل رمزا أو قانونا سهل حسب تحليله وفهمه للواقع ، كل كلمة جديدة تستعمل في تركيبات أخرى بعدها تظهر الجمل المقلدة لجمل الكبار.
1-3 مرحلة اللغة الحقيقية : الدخول في هذه المرحلة يبدأ بترك لغة الصغار ومفرداتها وتعبيراتها ، وتبدأ بنيات تشبه بنية اللغة ، كل هذه الاكتسابات تكون مساندة من النمو العقلي والفكري وللكبار دور أساسي في اكتساب الطفل للغة الحقيقية لكن نلاحظ أنهم يستعملون كلام غير منسق عندما يتكلمون مع الأطفال باستعمالهم لـ:Le langage bébé هذه الطريقة تعتبر في نظر الكبار أحسن وسيلة للكلام والتعبير العاطفي ، لكنها خاطئة ، لأن الطفل يتثبت في المرحلة الابتدائية أو ينكص إليها إذا تطور قليلا فيصبح جد صعب على الطفل الخروج عن لغة الصغار والدخول في مرحلة اللغة الحقيقية ، ويكون بذلك للكبار دور كبير في إخراج الطفل من هذه الوضعية أو المرحلة التي يشعر من خلالها بالاطمئنان ، فللطفل رغبتان متضادتان من ناحية يريد تقمص الكبار ومن ناحية أخرى يفضل عالم الطفولة .
ما بين 3 و4 سنوات تتطور اللغة عند الطفل حسب نموذج لغة الكبار حيث يترك الطفل لغة الصغار ويبدأ عنده التنسيق في الكلام ويكون ذلك مساندا من قبل النمو العقلي. ويتطور التمثيل العقلي لديه والتخيل والقدرة على الإبداع في إنتاج الكلمات والحكايات ، وتساهم في نمو هذه المرحلة "تكوين الأنا التي تساعد الطفل على التعرف على ذاته ويستبدل كلمة "هو" بكلمة"أنا" فهذه المرحلة تعتبر في نظر الطفل أول اعتراف للطفل بنفسه ككل (مرحلة تصميم الذات: وحدة الجسم والذات) يقول بيشون(Pichon) في هذا الصدد:" إن اللغة الحقيقية تتكون عند الطفل عندما يبدأ استعمال كلمة *أنا* باستعمال هذه الكلمة يدخل كلام الأطفال في قواعد وقوانين لغة الكبار" فبفضل الأنا وبفضل تكوين شخصيته يصبح كلام الطفل جزء من حوار يتبادله مع الكبار يبدأ الطفل في الأسئلة للوصول إلى المعرفة ويكثر من كلمات "أين، متى، كيف….؟؟"
فعن طريق هذه التساؤلات التي يطرحها الطفل على الكبار ينتظر معلومات عبر وضعيات غير مفهومة ، لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه في هذا السياق: كيف يملك الطفل القواعد اللغوية ؟ وهل لها تركيب خاص في ذهنه؟ وضع العلماء عدة افتراضات للجواب عن هذا السؤال: - فهم الكلمات والمفاهيم يساعد على اكتساب تركيب اللغة (الطفل يفهم معنى ودلالة كلمة ما يمكن أن يركبها لغويا) ويساعده في ذلك التكرار وحاسة السمع التي تتعود على الكلمات وتألفها.
- دور المحيط مهم جدا في تكوين قواعد اللغة عند الطفل حسب المختصين يتعلم الطفل قواعد اللغة عن طريق تقليد الأم وتقليد كلام الكبار في مرحلة ما قبل اللغة ومرحلة لغة الصغار، فهو يقطف من الجملة الكلمات التي يعرفها ويعيدها في جمل وتراكيب جديدة .
- لا يمكن إهمال الجانب الفطري والاستعدادات التي تظهر مع الطفل أثناء الولادة ، وفي هذا الصدد يقول ميلد(Mild) " للأطفال استعدادات ناتجة عن النمو وهي التي تدفعهم لاختيار الأشكال اللغوية المعروفة والمقبولة عالميا" وأيضا " يوجد تركيب بيولوجي هام جدا هو الذي يشكل اللغات الإنسانية"
- التطور الذي نلاحظه أيضا في ميدان اللغة عند الطفل ناتج عن تفكير متواصل في اللغة وناتج أيضا عن تدريب تلقائي في اكتساب البنية اللغوية التي ترجع في الأساس إلى اكتساب المفاهيم من قبل.
في الأخير لابد من الإشارة إلى أن الكثير من الأبحاث أكدت على ضرورة وجود اللغة لحدوث العمليات المعرفية لدى الطفل ، إلا أنه لا يمكن الجزم بعدم إمكانية حدوث تلك العمليات بدون اللغة حيث وُجد أن الطفل الأصم يمكنه تنظيم عالم خبراته بدون لغة ما ، فاللغة هي الوسيلة الوحيدة الحيوية والفعالة التي تعين الطفل في التعبير عن رغباته سواء كان ذلك بالإيجاب أم السلب ، إذ يبدأ الطفل الاستجابة للمواقف والأشياء بواسطة الإشارة ثم يتعلم الاستجابات اللفظية تدريجيا فينطق اللفظ الخاص بالشيء أو بالشخص ويستطيع بالتدريج التعبير عن رغباته باستعمال الجمل بعد أن كان يستعمل الكلمة وكلما نمت ذخيرته اللغوية وازدادت استطاع أن يستخدم الرموز في حديثه واستطاع أن يفهم الألفاظ التجريدية وأن يتعامل بها مع غيره.
2- العوامل المؤثرة في النمو اللغوي :هناك عدة عوامل تؤثر في نمو الحصيلة اللغوية منها :
2-1 العوامل الفيزيولوجية : والتي تتطلب وجود الأجهزة الثلاث حتى يتم اكتساب وإدراك وفهم اللغة ومن جهة لابد من سلامته من جهة أخرى وهي:
* الجهاز العصبي: الاعاقة الذهنية، الاصابات المخية والمخية الحركية والعصبية
* الجهاز السمعي : الصمم وضعف السمع
* الجهاز النطقي : عدم وجود تشوهات في أعضاء جهاز النطق
2-2 عوامل نفسية : ومنها :
* العلاقة أم طفل
* الحرمان العاطفي
* اضطرابات نفسية وسلوكية عند الطفل
2-3 عوامل اجتماعية : توفرها الأسرة والمدرسة والمجتمع ككل ومنها :
* التنشئة الاجتماعية :وجود الطفل في بيئة لغوية سليمة
* التفاعل اللفظي
* الاتصال اللفظي
* وجود حمام لغوي
2-4 عوامل عامــة : ومنها
* السن : كلما كبر الطفل في السن كلما ازداد نموه اللغوي
*الجنس: يعتقد الباحثون أن الإناث أكثر كفاءة على اكتساب اللغة من جنس الذكور ويعطون أدلة على ذلك بقدرة الإناث على اكتساب عدد أكبر من الكلمات وسرعة نمو اللغة تفوق مثيلاتها عن الذكور، كما أن تجويد اللغة وإتقانها يبدو أكثر عند الإناث منه عند الذكور.
مع تحيات الأستاذ محمد سالم للإستشارات القانونية
19ب عمارات العبور - صلاح سالم - القاهرة